النهضة الحسينية في بعدها ودلالاتها الرمزية

بسم الله الرحمن الرحيم

16-3achoura211

الشيخ شفيق جرادي

حينما نلتزم النهضة الحسينية في أبعاد مضامينها، ونلج إليها من استحضارنا الدائم لشعائرها ومراسمها التي اختلطت فيها مواقف وأحداث ما بعد شهادة الإمام الحسين(ع)، تلك التي أثارتها أقوال ومواقف الإمام زين العابدين(ع)، والسيدة زينب(ع)، والأئمة(ع) وأصحابهم.. بكثير من سياقات فهم، وتلقي تداعيات تلك النهضة الاستشهادية، والصياغة التي أرستها حركة قيادتها عند الأجيال، والتي أخذت تتمحور في أواخر عهود الأئمة(ع) وما بعد عصر غيبة الإمام المهدي(عج)، حتى يومنا هذا..

فإننا فضلاً عن مهمة التحقيق التاريخي التي نجد أنفسنا ملتزمين بها لحفظ مقوّمات تلك النهضة.. نرى أيضًا أن من اللازم علينا دراسة دلالات ما ترمز إليه، إنْ لجهةِ أحداثها أو لجهة الرسالة التي أطلقتها، بل ولجهة مضامين الوعي، والفهم عند المتلقين لهذه النهضة المجيدة..

والحديث عن الدلالة الرمزية هنا إنما أقصد به تلك الإشارات التي تمثل مداخل الوعي والذاكرة العقائدية والإيمانية والشعبية لدى المنتمين إلى قدسية النهضة الحسينية..

لكن وقبل الدخول في هذا الجانب، من المفيد التأكيد على جملة أمور:

أولها: إن حياة أي مجتمع من المجتمعات لا ترجع إلى التركيب الشكلي الذي يختص به فقط، بل إن للمجتمع حياة معنوية تمثل حقيقة قوامه، وما داخلها من عناصر قوة أو شوائب، من هنا فإن معتقدات المجتمع، وقيمه، وتاريخه المقدّس، كما مسار تطوره التاريخي، يأخذ الدور الحساس، إن لم نقل الدور الأكثر حساسية في طبيعة حاضره، ومعالم مستقبله.. بل وكما يقول بعض الأعلام: “إن تاريخ أي مجتمع إنساني هو في الحقيقة تاريخ حركته في نطاق العقيدة الموجهة له، وهو في الوقت ذاته تاريخ العقيدة التي أملت على المجتمع صياغة حياته بهذا الأسلوب المعين، وذلك بمقدار تجاوب المجتمع مع عقيدته وتفاعله معهما”(1).

ثانيها: ليس النظر للتاريخ بالأمر المنفصل عن الحاضر وطموحات المستقبل في بنائه.. إذ النظر للتاريخ إنما يحتاج إلى المراجعة الدائمة؛ لأن فيه تكمن الشخصية العقائدية أو المكافحة التي ينبغي تحصينها من كل انحراف، أو تزييف لواقعها، حتى لا تقع في دائرة التشويه بتحويل أبطالها في المخيال العام إلى جماعة من الخارجيين أو المارقين.. وحتى لا تضعف همة الجهاد والتوتر العقائدي التغييري..

ثالثها: لطالما تمّت كتابة التاريخ وفق منطق السلطات الحاكمة، حتى إن أدبيات العصور التاريخية أخذت منحى هذا المنطق، وقد تمَّ بذلك إقصاء تاريخ الجماعات التي كانت السبب في صنع الأحداث والوقائع.. بل إن محورية الإنسان والشأن الإنساني قد تم استبدالها بالأسطورة الصانعة للبطل بشكل مفصول عن الحياة وأحاسيسها المفعمة بمضمون الوجود الإنساني لترتقي إلى مُثل لا يمكن نيلها والتأسّي بها لدى الجماعة والأجيال..

لذا فإن الالتقاء مع النهضة الحسينية يضعنا أمام حقيقة تاريخ الجماعات الصانعة للتاريخ، وسيرة المثال الأعلى الذي يتماهى مع الإنسان في كل عناصر قوته وضعفه وانتصاراته وانكساراته وحياته وموته. ليكون المثال الأعلى المتمثل بالقائد الإنسان؛ الأسوة لكل جماعة وجيل.. والتعبير الحي عن التوازن الإنساني الذي لا يتمزق بانفصامات بين واقعه الحي ومثاله الأعلى..

رابعها: إن ديمومة النهضة الحسينية في حياة وضمير أمتنا، إنما تعود لتوفرها على عناصر الخلود وصيرورة التشكّل الارتقائي.. فهذه النهضة وإن حدثت في الزمن المحدّد ومع أشخاص محدّدين وبوقائع محدّدة.. إلا أنها ارتبطت بمعتقد ينتمي إلى ولاية عقائدية بالإمام الحسين(ع) على الأنفس والأرواح، هي خارج ضوابط وقيود الأرض والوقت والأحداث المباشرة، ففيها أن روحه في الأرواح، وفيها أن ولايته هي ولاية محمد(ص) الخالدة وولاية قائم آل محمد(عج) المرجوة والجاذبة لكل حركة نهضوية إسلامية تبتغي إحداث التغيير في العالم وقيمه الحاكمة..

كما أن صاحب هذه النهضة ربط كل شؤون حركته بحفظ الدين، والذكر الحكيم: “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر”..

وهذا الحفظ هو واجب ثابت في عهد كل مؤمن مع ربه؛ لذا فإن كل تجديد للعهد مع الله ودين الله، هو تجديد عهد لا ينفصم مع أبي عبد الله الحسين(ع) في نهضته وشهادته..

خامسها: إن آلية الدخول إلى هذه النهضة المباركة في روحها ومضامينها، إنما يعود للتحفيز الدائم نحو ممارسة نقد ومراقبة الذات في خلوصها لله بحسب قواعد الشهادة والتضحية والإيثار الحسيني. كما يعود إلى الثابت الذي لازم كل ذكر لهذه النهضة، والذي تمثل بإحياء المأساة بفاعلية مقتدرة من جهة، ومواجهة السلطة الظالمة أيًّا كان موقعها من جهة أخرى..

بناءً عليه فإن الدم والحياة.. الجريمة والصبر على البلاء.. البكاء والرفض الواثق.. المأتم ومسيرة التحرّك الجهادي.. التوبة وفتح أبواب الشهادة.. هي عناوين وصور ووقائع تمثل رموزًا ومؤشرات، تدلف بنا إلى قلب الحدث.. بل بالإمكان القول: إن الحدث نفسه هو رمزٌ يشير إلى قضية الإسلام الكبرى التي عنوانها أن الأرض لله وأن الله عدلٌ يأبى كل لون من ألوان الظلم والاستبداد.

ومن الملفت في هذه الرموز أنها تتجادل بين مظهر ومضمون متضاد في ظاهره.. بحيث أن انسفاك الدم والبكاء المفجع، الذي يعني في دلالته صمت النبض، وتوقف الحياة، والإعلان عن التسليم، والانكماش على الذات.. هو نفسه من حيثية المضمون يعني الشهادة بما هي حياة فوق الحياة، وبما هي رفضٌ لسيادة اللحظة في توترها العنفي الظالم، واقتحام كل مجهول في سبيل حفظ المقدّس الأغلى من الجسد والنفس والذات..

وما الصبر على البلاء إلا حمدًا لله رب الموت والحياة، وتكاملاً لذات إنسانية ترسم معالم قدرها وفق منطق الاقتدار القوي العزيز.. وما المآتم إلا رسالة صاحب القضية إلى العالم.. وما التوبة إلا لحظة قرار التحول في المسار والمصير..

لذا، فإن هذه الجدلية بين الظاهر والمضمون تمثل السمة التي تتصف بها إحيائية هذه النهضة الحسينية.. وهي في نفس الوقت تتوفر على أمرين في غاية الأهمية:

الأمر الأول: إن هذه الجدلية بمؤشراتها ودلالاتها الرمزية، تنقلنا من الزمن القار والمتقطع.. إلى الزمن السيال والموصول، ليصير الماضي قابلاً للتشكّل بالمستقبل وفق رؤية الحاضر الهادفة إلى صنع الهوية والذات داخل الزمن لا بما هو تاريخ، بل بما هو ذاكرة واعية في التاريخ، أو إن شئت فقل: بما هو الوعي في التاريخ؛ والذي يتقاطع مع قيم المسؤولية الرسالية ليولِّد وعي المعنى والدور والمهام.. لذا، فإنه وفق هذه النظرة لا يعود التاريخ مجرّد أحداث، بل هو رسالة تحمل المقاصد والأهداف التي يزداد الوعي فيها عند كل مراجعة نقدية هادفة تستند إلى معطيات الواقع، ومداخيل الاحتياجات، والمستلزمات التي تمليها ضرورات الواقع ومبادئ الركائز الرسالية.. فنحن هنا أمام مرائي متعاكسة بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، لكل واحدة منها الدور الحساس في صورة البقية..

الأمر الثاني: إن الحديث عن الرمز لا نقصد به مجازية الحدث أو أسطوريته.. بل الذي نعنيه مؤشر الحدث في تفاصيل وقائعه والأقوال والأدبيات المعبّرة عنه.. والقيام بفصل كل تفصيل أو قول على حدة، لقراءة مقاصده في نفسه وضمن منظومته، بل وبكيفية سطوعه في الأنفس والأفهام..

فمثلاً، حينما نلتقي مع الإمام الحسين(ع)، في صلاته الأخيرة ودعائه الأخير، من المفيد أن نعي معنى هذه الصلاة والدعاء، وأن نطلع على كل كلمة قالها(ع) في دعائه الأخير.. أو مثلاً حينما تقول السيدة زينب(ع): اللهم تقبل منا هذا القربان.. فما معنى القربان هنا؟ وكيف تفاعل المتلقي مع هذه الجملة؟ وهل أدخلها في نظام الفهم الديني عنده أو النهج التربوي لديه؟ وهكذا..

ثم بعد ذلك علينا أن نربط كل تفصيل بالمقاصد العليا للنهضة الحسينية، وبالهدف المحدّد الذي أبرزه الأئمة(ع)، وهو “إحياء الأمر”؛ أي أمر الدين وسنة النبي والآل..

إحياء الأمر.. “أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا”..

وذلك عبر التماهي مع رموز ومؤشرات الإحياء العاشورائي، الذي يمكننا تصنيفه إلى أقسام ثلاثة، وبحسب الوظيفة الرسالية:

القسم الأول: تغيير ما بالأنفس وذلك من خلال التوبة على التخلف عن أهداف النهضة مع ما تحمله التوبة من تعبيرات البكاء، والفجيعة، والحزن، والقرار العازم على قضاء ما فات من حق رسالي لآل محمد (ص)..

القسم الثاني: تشكيل الهوية الجمعية، عبر قصد مكان محدّد هو كربلاء في أوقات وأشكال وأقوال معينة تربط الزائرين عبر التاريخ بمحور واحد، ومعتقد واحد، ومسير واحد، ووجدان خالص ومخلص في قيم الانتماء والولاء..

القسم الثالث: وهو المتمثل بشعائر الإبلاغ الحسيني عبر المجالس الحسينية، والأدب الحسيني، والتثوير الحسيني الدائم، والذي ينطلق من وجوب مجابهة الأرض المملوءة ظلمًا وجورًا، حتى نصل لليوم الذي تمتلئ فيه قسطًا وعدلاً..


(1) شمس الدين، دراسات ومواقف، ص 68.

أضف تعليق