مؤتمر الخطاب الديني

بسم الله الرحمن الرحيم

شفيق جرادي

التاريخ: 12/10/2009

إن الخطاب بحسب فهمنا له هو القول المبني على مقصد أو مقاصد يطلقها أو يرسلها المخاطِب إلى المخاطّب عبر قناة تواصل تستهدف الإبلاغ، أو الإلفات، أو التأثير، وتردّ على الهواجس والإشكالات التي يعايشها المخاطَب، ليكون بذلك شريكاً فاعلاً في صناعة الخطاب..

وهذا يعني أن الخطاب ما لم يكن رسالة هادفة قائمة على معايير واضحة، فإنه يصبح مجرّد كلام مهمل عبثي..

وما يهمنا في هذا المجال أن نركّز على المناسبة الخاصة بطرح الموضوع، وهي التي ترتبط بخطاب الإعلام الديني.. بناءً عليه فإن الخصوصية بالبحث تتمثل بمحورية وسيلة أو قناة التواصل بين المخاطِب والمخاطّب..

والوسيلة أي وسيلة هي بالغالب أداةٌ حيادية يعود الحكم عليها إلى جملة الأهداف التي توظّفها في مجال إيصال الرسالة إلى المستهدف..

وعلينا هنا أن نحسم الموقف تجاه المعايير المباشرة المتعلقة بقياس نجاح الوسيلة الإعلامية..

هل هي تتعلق بجدّية ما يقدَّم فيها من موضوعات ومفاهيم وقيم؟ أم أنها ترتبط بفاعلية تأثيرها في سلوك المخاطّبين؟

أو أن كثرة المشاهدين (الزبائن) هو معيار نجاح القناة؟

وهذا يجرّنا للحديث حول المخاطبين أنفسهم.. هل هم مجرّد متلقٍ علينا أن نُشغل وقته وانتباهه وإعجابه كيفما اتفق؟ أم أنه صاحب أسئلة وقلق واحتياجات تتطلب أن نحاكيه كشريك في صنع الخطاب؟ وهذا ما نلمسه في قوله سبحانه: ﴿وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً[1].

فالإشارة هنا تعلقت بما في أنفسهم من وجدان ومعاني، وما في الأنفس من هواجس واهتمامات.. إذ الموعظة أو القول البليغ هو ذاك الذي يحاكي النفس .. وهذا يطرح أمامنا ضرورة الدراسة المتأنّية لواقع ما نقدّمه للمخاطبين.. واسمحوا لي بهذا الصدد أن أثير أمامكم هاجساً أستشعر الخطر فيه؛ وهو أنا نفصل فيما نقدّم بين الجانب النظري والجانب التقني والفني، أو المهني ببناء مؤسساتنا ومشاريعنا. فمثلاً قد نصل للقول بضرورة الدراسة الدقيقة لواقع الخطاب الإسلامي والاستفادة من نهج الرشاد والاقتدار الذي قدّمه القرآن الكريم وآل العصمة ومن استهدى بهداهم.. حتى إذا ما جئنا للتطبيق تعاملنا في مؤسساتنا على أساس تلبية الحاجات المهنية والإدارية والتقنية المباشرة التي تجعل الإنسان والقيم والأفكار كأنها مجرّد أشياء وسلع، وهذا انجراف مع منحدر التأثير المادي للغرب، في الوقت الذي أعتقد فيه أن القناة الإسلامية أو البرنامج الديني هو ليس ذاك الذي يتحدث عن الدين فقط، بل هو الذي يقوم في أصله على قيم الإسلام الإلهية، فمعيار إسلامية المحطة أو الدعاية أو الفيلم أو الحديث أو الإشارة والموسيقى والصورة والفن، هو ضبط معايير القيم وحضور الأهداف،.. والشكل الذي ينبغي أن يرتبط بهذه الضوابط وإلا تحوَّل إلى سراب.. بل إن الشكل ينبغي أن يرتبط بالرسالة، فمثلاً لمَ لا ندرس إمكانية تقسيم أوقات البرامج على ضوء التوقيت الشرعي للصلاة.. وإيلاء الفسح المساندة والمُهيئة لإقامة الصلاة بأوقاتها؟

ولمَ لا نؤهّل القدرات الفنية العالية لترويج الفرائض والآداب والأخلاق والأعراف الإسلامية؟

وبطرح المواضيع لمَ لا نتبنّى ثنائية التفاعل الجدلي المنتج بين الواقع والنص في استخراج الأسئلة والأجوبة والمقولات، والحراك الفكري والأخلاقي؟.. علماً أننا إذا أردنا لوسائلنا الإعلامية أن تأخذ موقعها في نهضة الأمة والإنسانية فسبيلها لذلك هو إيجاد سُبُل الوحدة والتكامل بين مضمون النص؛ أي الموعظة؛ وبين ميادين الحياة، وهذا ما جاء في قوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى[2].. ومن يريد التصدّي لمثل هذا الأمر عليه أن يثق ويؤمن بقوة ما يعتقد، وأن يوصله بأبين وأوضح السُبُل والطرق والأساليب.. ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ[3].. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ[4].. ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[5].. فإذاً، على المرسل المخاطِب الثقة بما يحمل من قوة الرسالة، إلا أن عليه الإبلاغ، ومن المعلوم أن البلوغ والبلاغ هو الانتهاء إلى أقصى المقصد، وتأمين كل عناصر الكفاية في إيصال الرسالة.. لذا اعتبر معرّفوا البلاغ أنه يجمع ثلاثة أوصاف هي:

1-   الصواب في موضوع اللغة والمضمون..

2-   مطابقته للمقصود..

3-   صدقيته في نفسه.

4-   أن يكون بليغاً من جهة الصادر عنه، وبليغاً عند المتلقي، حيث إنه سرعان ما يؤثر فيه..

وللخطاب أو إن شئت فقل للبلاغ وظيفتين اثنتين نعتقد أن بإمكان وسائل الإعلام الديني تأديتهما بشكل كبير:

الوظيفة الأولى: تحصين المجتمع الإيماني أو الموالي من تأثيرات الدنيا والهوى، وبث عناصر الجهل والتعصب والفتنة…

وهذه الوظيفة عبَّرت عنها الآيات بالتذكرة والتذكّر.. ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[6].. فالتذكر هو مقصد أي موعظة وهو السبيل للانتهاء عن الحرام والمنكر والظلم والتعدي.. بل إن التذكرة وازنت بين المهم والأهم في سلّم الأولويات. فمثلاً لو تحدثت أو قمت بعمل طيّب قد يسبّب أذىً ما.. هل هذا العمل أو القول هو المطلوب رغم الأذية والفتنة؟ أم أن سلّم أولويات المهم والأهم يطرح علينا قيمة أخلاقية أعلى هي قول المعروف الممزوج بالعفو، بحيث يوحّد بين قلوب المسلمين وصفوفهم؟… وهنا نقرأ قوله تعالى:

﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى[7].. وهذا القول المعروف هو المسمّى بالسديد ﴿وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً[8].. ومثل هذا القول هو الحكمة التي أشار إليها القرآن الكريم أنها تستجلب الخير الكثير في سورة البقرة 266..

الوظيفة الثانية: هي الوصول إلى كل أهل الأرض بهدف تحويل العدو إلى وضع يشابه فيه الولي الحميم.. وهذا لا يعني التراخي في المواقف وعرض ما يستلذه الآخرون، بل تعني أن نكون أخلاقيين في سلمنا وحربنا، وأن نعرض الإسلام في حلمه وحربه وسلمه، وأن نخرج من منطق البعض منا الذين يقدّمون أنفسهم وكأنهم وكلاء الله.. إذ الله يريد الخير لكل الخلق، وهو القائل: إنه يدافع عن المؤمنين، وهو الذي يأمرنا أن ندعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدل بالتي هي أحسن وصولاً فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم..

نعم، إن البعض ممن نصفهم بالأعداء إنما يعادوننا نحن، لا أنهم يعادون الله، وهؤلاء ينبغي أن يروا صورة الرحمة الإلهية تتجلى فينا، ليعلموا أن الله رحيم.. ولا أعتقد أن باستطاعة أحد القيام بهذا الدور أكثر من وسائل الإعلام.. لذا فمن المطلوب الاستغراق الجدي تحت الهواء وخلف الشاشات بنقاش استراتيجيتنا التبليغية للناس قد تساعد فيه كل مؤسساتنا وعلمائنا ومفكّرينا، لكن شرط نجاحه الوحيد أن يكون بتوجيه مباشر من قائد واحد وإمام واحد للأمة يحمل أطروحتها المعاصرة، ويخوض بها كل سبيل يوحّد بين السُبُل فيجعلها صراطاً مستقيماً…


[1] – سورة النساء، آية 63.

[2] – سورة سبأ، آية 46.

[3] – سورة النحل، آية 35.

[4] – سورة النحل، آية 82.

[5] – سورة إبراهيم، آية 27.

[6] – سورة النحل، آية 90.

[7] – سورة البقرة، آية 263.

[8] – سورة الأحزاب، آية 70.