بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ شفيق جرادي
لا نريد لهذا الموضوع أن يتناول الموت والحياة في ماهيتهما وحقيقة جوهرهما, إلا بمقدار ما لهذا البحث من دخالة في تشكيل الرؤية العملية والموقف الذي ننتهج منهما..
فالناس كانت تُدرك وتحس على الدوام برابطة خاصة مع الحياة الدنيا, كما إنها كانت تدرك هول الموت وما يتركه من انبعاثات للخوف والألم على الوجدان الإنساني الفردي منه بشكل خاص.. ولقد سعى الإنسان بقلق وجودي دائم للبحث عن سبل مواجهة الموت والحياة, وكلما كان يتعرَّف إلى سبيل ما كان يعمل على تكييف نفسه قدر استطاعته, بحيث أن لا يتحول القلق والخوف إلى ألم نفسي دائم يُخرِّب عليه حياته ويهز استقراره وعملية تفاعله مع الوجود المحيط به, تفاعلاً يهدم مقوِّمات العيش وسبل النمو والترقي والازدهار.
ولعلَّ واحدة من أهم وظائف وأدوار الأديان هي معالجة هذه الحالة الإنسانية في مواجهة الحياة والموت..
الحياة والموت في نظر الإسلام:
ينبغي علينا أن نلحظ في البداية أن هناك حالات نفسية تسيطر على الإنسان عند مواجهة الحياة (الميلاد), أو الموت, بحيث تُنسِيانا مستتبعات الحياة الميلاد والموت. وهاتان الحالتان هما الفرح عند الميلاد, بحيث إنَّا نتعامل مع المولود بالتزيين وكأنما حضور وجوده وميلاده لا انقضاء له, كما نتعامل مع الموت وكأنما هو انعدام لا ملتقى بعده.. ولعلّ النظرة المادية لهذه المشكلة فرغت لتقول بالموت الشامل؛ أي كما يقول القرآن الكريم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾(1), فليس بعد الدنيا شيء. وعليه فعلينا بناءها بشكل عصبوي تنافسي صراعي يبقى فيه الأقوى هو سيد الموت دون وجود رقيب أو حسيب.
وهذا ما احتاج إلى جملة من التعاليم الإسلامية والتنبيهات الربانية إلى حقيقة الحياة الدنيا والموت وما بعد الموت.
ومن هذه التعاليم والتنبيهات:
أولاً: الإلفات إلى أن الدار الدنيا قد يتحوَّل إلى مركز للهو والعبث واللعب بالمصير الإنساني..
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(2).
فالقرآن لم ينف وجود خير ما في هذه الحياة الدنيا, إذ اعتبر أن أصل الحياة خير, إلا أن ما هو أكثر خيراً وأدوم حياة هي الحياة الآخرة. ومفصل التمييز بين الخير وغير الخير إنما هو حياة التقوى وتمثل التقوى, وهذا الأمر قد يغلفه رين اللهو واللعب الذي يمارسه الإنسان دون تعقل لحقائق الأمور ومستلزماتها. من هنا نبَّه تنبيهاً استنكاريّاً على الناس بقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(3).
ثانياً: إن منشأ اللهو واللعب يعود لأمرين:
التعامل مع بهارج الدنيا على أنها المتاع الذي يتلبّس به الإنسان, والمتاع بحسب طبعه معرَّضٌ للفناء، ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾(4).
الظن أن الحياة الدنيا هي عمق الحياة الإنسانية ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(5).
ثالثاً: إن فهم الدنيا باعتبارها مركز لعب ولهو وأنها مجرد متاع, يؤسِّس لفهم وثقافة التعاطي معها كمعبر للحياة الآخرة الخالدة, أو حسب الروايات هي مزرعة الآخرة. وبحسب ما نزرع هنا فإن الجزاء والحصاد يكون في الحياة الآخرة.
فعن أمير المؤمنين(ع) “وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل بكم”.
رابعاً: التنبيه إلى أن الموت وترك الحياة الدنيا هو المصير الحق الذي سينزل بكل مخلوق ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾(6). وقوله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾(7).
خامساً: تأكيد أن وجود الحياة الدنيا التي يليها الموت ليس عبثاً, بل عن حكمة وجودية مفادها: أن الحياة كما الموت هي بلاء الإنسان, والإنسان إنما يرتقي سبل الكمال ومدارجه بحسب قدرته على الخوض في امتحانات البلاء, وهذا الامتحان هو فتنة الناس, إذ يُعرض عليهم الخير والشر, وبحسب اختيارهم يكون رسم مصيرهم الخالد, وستبقى هذه الفتنة التي فيها الابتلاء مفتوحةً إلى الدنيا كما حصل مع عمر بن سعد الذي خيَّر نفسه بين الجنة ومتاع حكم الري فاختار حكم الري… الذي لم يدم له.. أو كما حصل مع الحر الرياحي الذي خيَّر نفسه بين الجنة والنار فما اختار على الجنة شيئاً رغم أنه جعجع بالإمام الحسين(ع).. وفي هذا السياق جاء في الذكر الحكيم: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(8).
فالله العزيز الذي لا يضيمه فعل خلقه, هو أيضاً غفورٌ قابل للتوبة وبابه مفتوح لعباده على الدوام.
سادساً: أن نتعامل مع واقعة الموت حين تمثلها أمامناً باعتبارها الحقيقة التي كتبت علينا نحن لا أنها كتبت على غيرنا دوننا. ففي الوارد أن أمير المؤمنين(ع) كان يحضر جنازة فسمع أحدهم يضحك فقال: “كأن الموت فيها على غيرنا كتب.. وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموتى”(9).
سابعاً: الاعتبار بالمرض والألم والشيخوخة والنظر إليها كرسل للموت. يقول تعالى: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾(10).
وأرذل العمر هو أدونه؛ إذ يؤثر على جوارحه وحواسه وعقله بالهرم والخوف. فيعود طفلاً لا يعلم مما تعلمه..
إلا أن هذه التعاليم والتنبيهات لا تتعلق بالدنيا كدنيا, بل كيف يتمثل الإنسان التعاطي معها فليس المستنكر الدنيا, بل النظر إليها كمجرد مركز للعب واللهو والمتاع والعبث, والمذموم هو التعلق القلبي بها. وإلا فإن الحياة خير, وإنما كانت الحياة الدنيا من رب الخير. من هنا طلب الله من عباده أن يعملوا لتشرق بنور ربها, وأن يحكموا فيها بأحكام القسط والعدل الإلهي, وأن يستشهد في سبيل ذلك أعظم الخلائق من الأنبياء والأوصياء والصديقين. ومن هنا حمل الإمام الحسين(ع) سيفه على الظلمة كما فعل جده وأبوه, فلا يصح لا من حيث الغايات التنكر للدنيا والحياة فيها, ولا يصح التنكر لأحداثها وعبرها وسننها الإلهية.
ولهذا جاء أن أمير المؤمنين(ع) اعترض على من ذم الدنيا قائلاً: “أيها الذام للدنيا, المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ثم تذمها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟! أنت المتجرِّم عليها أم هي المتجرِّمة عليك؟! متى استهوتك أم متى غرتك؟! أبمصارع آبائك من البلى, أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء؟ لم ينفع أحدهم إشفاقك, ولم تسعف فيهم بطلبتك, ولم تدفع عنهم بقوتك. قد مثلت لك الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها, ودار عافية لمن فهم عنها, ودار غنى لمن تزود منها, ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله, ومتجر أولياء الله, اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.
فمن ذا يذمها وقد آذنت بينها ونادت بفراقها, ونعت نفسها وأهلها؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء, وشوَّقتهم بسرورها إلى السرور, راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترهيباً وترغيباً وتخويفاً وتحذيراً. فذمها رجال غداة الندامة. وحمدها آخرون يوم القيامة ذكرتهم الدنيا فتذكروا, وحدثتهم فصدقوا, ووعظتهم فاتعظوا”(11).
فالدنيا وجود محايد ومائدة ممدودة فيها ما فيها الذي إن حفظناه لمجرَّد الصورة تحول إلى شيء عفن, وإن تناولناه لما فيه غذاء روحنا كانت صلة استمرار لحياة هنيئة. فنحن الدنيا المذمومة. ونحن الدنيا الموصلة لسعادة الآخرة..
وعلى هذا النحو من الفهم تفتقت كل القرائح والسجايا لتعاليم السماء عند الإمام الحسين(ع) ومن كان معه من أهل بيته وأصحابه..
فالعلاقة التي تقوم على ربط المصير بالدنيا وحدها نابع عن الغفلة والجهل, بينما العلاقة معها كمزرعة للآخرة إنما ينبع عن علم يولِّد الاطمئنان النفسي والهدوء في مواجهة كل الزلازل بما فيه الموت﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ* أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(12).
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾(13).
﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾(14).
نظرة الإمام الحسين(ع) إلى خير الدنيا والآخرة:
ورد في الأخبار أنه قد قيل للإمام الحسين(ع) أن أبا ذر يقول: “الفقر أحب إليَّ من الغني, والسقم أحب إليَّ من الصحة, فقال(ع): رحم الله تعالى أبا ذر أما أنَّا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله لم يتمنَّ غير ما اختاره الله عز وجل له”(15).
إذًا هذه المقولة تؤسِّس لثقافة في الدنيا لا تقوم على الزهد السلبي, بل على التعامل مع حكم الله بحسن الرضا والتوكل, بحيث يكون أي حال من أحوال الإنسان في الفقر أو الغنى, في الحكم أو الاضطهاد وهو مورد لعبادة الله والعمل على إنفاذ إرادته سبحانه, وهذا ما يؤسس لثقافة الغنى والعز في الحياة, إذ ورد عنه(ع): “إن العزّ والغنى خرجا يجولان فلقيا التوكل فاستوطنا”(16).
ومقتضى التوكل في الحياة العامة والعلاقة مع الناس أن تبنى العلاقة على أساس حكم الله ورضاه, إذ سئل(ع) ما هو خير الدنيا والآخرة؟ فكتب قائلاً: “بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فمن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس. ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكَّله الله إلى الناس والسلام”. فالحر الغني العزيز هو الذي يتعامل مع الناس؛ كخلق لله لا كأولياء لنعمة وجوده ومكانته.. من هنا استمر رغم كل المعارضين لحركته, وكان يقول مناجياً ربه: “إلهي وسيدي وددّت أن أقتل وأحيى سبعين ألف مرة في طاعتك ومحبتك سيما إذا كان في قتلي نصرة دينك وإحياء أمرك وحفظ ناموس شرعك”(17).
وكان(ع) ينظر إلى كل صنوف البلاء باعتبارها مفتاح للفرج, ففي الرواية أنه لمَّا نظر إلى أهل بيته وأصحابه كلهم صرعى خاطب من بقي من الأطفال والنساء قائلاً: “استعدوا للبلاء, واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم, وسينجِّيكم من شر أعدائكم, ويجعل عاقبة أمركم إلى خير, ويعذِّب أعاديكم بأنواع البلاء, ويعوِّضكم الله عن هذه البلية أنواع النعم والكرامة فلا تشكّوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم”(18).
فنظرته لعواقب الأمور لم تقتصر على حدود الحياة الدنيا, بل الآخرة كحياة كانت حاضرة على الدوام, بل وإن حضور الله في الدنيا ورعايته لأهلها حاضرٌ على الدوام.. من هنا تحدَّث عن أن كسب الآخرة يكون بشرط الصبر, وأن لا يقول المرء ما يقلل من قدر عبوديته لربه سبحانه.
وهذه الملاقاة للموت وفهم الحياة قام عند الإمام الحسين (ع) على أصلين:
أولهما: إن الموت قد خطَّ على ابن آدم, وأن ما بينه وبين ملاقاة الحياة الخالدة إلا عبور قنطرة الموت, فإذا كان العبور بإرادة تصنع العز وتحوِّل الموت نحو الخلود, إذ الحياة بموتكم غالبين لعدو الله ولصعوبات الموت.
بينما الموت الذي هو خسران دائم لحياة الآخرة هو بالحياة مغلوبين مقهورين.. “وهو ما تمثله تباشير وجهه التي كان يراها أصحابه وهو يواجه فجائع الموت”.
ثانيهما: إن إعمار الحياة الدنيا واجبٌ على كل مكلَّف السعي لتحقيقه ولو كلف الأمر بذل الروح والشهادة على طريق العزة. من هنا كان يردد (ع) “ألا إن الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة”(19).
وإلا فأصل طلب القتل دونما هدف هو انتحار يعاقب المرء عليه من قبل الله, وهذا ما تضج به الأحكام الشرعية وما تنطق به الآيات القرآنية ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾(20). حتى لو كانت هذه النفس هي نفسك أنت, إلا أنك لا تملك التصرف بها إلا في سبيل هدف أسمى..
وهذا الفهم وجدناه عند أصحاب الإمام الحسين(ع). فمنهم من تأمَّل الحياة والموت واستيقن ما بعد الموت, وعلى أساس هذه القناعة اختار الشهادة بين يدي الإمام الحسين (ع).
ومن هؤلاء الحر الرياحي الذي قال مرتجفاً: “إني والله أخيِّر نفسي بين الجنة والنار فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطِّعت وحرقت”(21), ثم جاء للإمام (ع) منكِّساً رأسه قائلاً له: “إني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى تُرى لي مثوبة”(22).
فالمقدَّس عنده الذي حوَّل الموت إلى فعل مقدّس, والذي هو أغلى من الاستمرار بالحياة في الدنيا كان الجنة التي أرادها بالتوبة وولاية الإمام الحسين(ع) التي التزمها بأن يواسيه بنفسه فيقدِّم حياته ولاءً وطاعة لمولاه وأهدافه العليا السامية.
ومنهم من اعتقد أن الإمام الحسين(ع) هو حجة الله التي لا يعذر الإنسان بتركها. لذا هان عنده الموت, ومثال هؤلاء مسلم بن عوسجة, إذ يقول: “أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك؟”(23).
ومنهم من تأثّر بمقولة الإمام الحسين(ع) فحركت فيه الإقدام على الشهادة؛ كمثل زهير بن القين. بل وصل المطاف ببعضهم أن اعتبر أصل الدفاع عن الإمام الحسين(ع) أقل ما فيه بذل النفس. فهذا عابس بن أبي شبيب الشاكري يقول للإمام الحسين(ع): “يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز عليَّ ولا أحب إلي منك, ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته”(24).
وهذا النموذج جذبه حب أبي عبد الله (ع), فكان المقدََّس الأقدس عنده هو الحب, لذا ورد عن بعضهم حب الحسين أجنني..
وقد عبَّروا عن رؤيتهم للدنيا والموت والآخرة من خلال الأشعار أحياناً حينما كانوا ينزلون إلى المعركة يقول:
إليك يا نفسي إلى الرحمان
|
|
وأبشري بالروح والريحان
|
اليوم تجزين على الإحسان
|
|
ما كان منك غابر الأزمان
|
ما خط في القلم لدى الديَّان
|
|
لا تجزعي فكل حي فان(25)
|
آثار النظرة إلى الدنيا والآخرة حسب الثقافة العاشورائية:
الأثر الأول: تمتين الحياة العقائدية؛ بحيث تتحول الأفكار العقائدية في مدرسة عاشوراء إلى روح عقائدية تشكِّل سر الحياة لكل منتمٍ لتلك الأفكار والقناعات, وذلك عبر بوابة الموت الذي يواجهه العقائدي؛ كنافذة للوجود وقهر العدم “خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة, وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف, وخير لي مصرع أنا لاقيه, كأني بأوصالي تقطِّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً”(26).
فالقناعة والإيمان بالموت المكتوب بقضاء لا يرد على الإنسان جعل خيار الموت خيراً, حتى ولو كان مهولاً تتقطَّع فيه الأجساد, إذ هو موت إرادة حق لا ينهزم أمام الباطل, وترك لدار اللئام للاستقرار بدار ملؤها الأحبة من محمد وآله(ص)..
ثم يكمل(ع) ليؤسس قاعدة الإيمان بالتوكل والرضا؛ كإحياء لفهم التوحيد الأفعالي “لامحيص عن يوم خط بالقلم”(27). وهنا يكون التوحيد الأفعالي رابطاً لرضا الولي الأعظم “المعصوم” برضا الله سبحانه “رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين لن تشذ عن رسول الله(ص) لحمته, وهي مجموعة له في حظيرة القدس, تقر بهم عينه وينجز لهم وعده”(28). وهكذا يربط الإمام الحسين(ع) ولاية الدنيا وأهلها للمعصوم بولاية الآخرة المستقرة بصورة حظيرة القدس عند النبي(ص) وآله لتكون وشائج الدنيا والآخرة القائمة على الولاية إنجازاً لوعد الله ورسوله بأن تشرق الأرض بنور ربها, وهذا ما يقضي من كل موالٍ أن يلتحق بركب مسير الولي “من كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله”(29).
الأثر الثاني: تحويل اضطراب الحياة الدنيا وهول الموت إلى أمان:
من المعلوم ما تثيره الحياة الدنيا من قلق وألم وتصدّعات ناتجة عن الصراعات والمزاحمات, ومن المعلوم ما يثيره الموت من اضطراب وخوف وانهزام. لذا جاء منطق الحسين(ع) في عاشوراء ليضفي روحاً جديداً على قلق الحياة وخوف الموت, إذ يقول(ع): “نسأل الله مخافة الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة, فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة.. والسلام”(30)..
فالطلب الإنساني المحق هو “الأمان” وتحصيل الأمان تحت لواء الولاية يقوم على أصول:
اتباع شرعة الكتاب العزيز.
بر الولي ومواساته في السراء والضراء وعند الشدائد.
ج- اللجوء إلى الله سبحانه “وخير الأمان أمان الله”(31).
د- جعل الخوف الإنساني مكرَّساً للخوف من العاقبة فقط .
وهذا لا يتم إلا بالإيمان بالله سبحانه وبقدرته وعزته وحصانته ولطفه وعلمه إلخ… لذا يقول الإمام الحسين(ع): “ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمان الآخرة عنده”(32).
فشرط الخوف من الله معرفته والإيمان به, ثم الإيمان بأنه الله السيد المهاب في الدنيا كما في الآخرة. وتجانس الخوف من الله في الدنيا كالخوف الواقع منه في الآخرة, والذي أبرزت صورته وحالاته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وهذا النحو من الخوف هو الموجب للأمان, إذ به تستقر عبودية الإنسان في عبادته وفي تنظيم أمور وشؤون حياته.. والملفت قوله(ع): “أمان الآخرة عنده”(33). للتذكير بقوله سبحانه:﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ (34)؛ ومقام العند هو أعلى مقام يطلبه العبد من ربه…
الأثر الثالث: وضع المعايير الصحيحة والسليمة للتفاعل مع الدين, فليس التدين لعق على الألسنة, بل حياة وتضحية وشهادة “الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت به معائشهم, فإذا محِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون”(35).
فتحويل الدين إلى بنية تقليدية لمجتمع من المجتمعات توظّف لطلب المكانة الاجتماعية والسياسية, بل والإتجار به لحفظ العلاقة والتمسك بالدنيا أمرٌ مرفوض, وهو ما تسعى إليه النخب المترفة وأهل السوء الاجتماعي والضعفاء في أنفسهم وذواتهم الذين يهربون من المواقف الصعبة التي تقتضي الشجاعة والإقدام, وهؤلاء كان يتوقع الإمام الحسين(ع) أنهم عند الابتلاءات سيتركونه ويتركون رسالته ورسوله مسلم بن عقيل وحده في سوح المواجهة والتحدي..
أما الصورة الأخرى فهي تلك المتعلقة بأصحاب النفوس الحرة, وأصحاب الدين وأتباع الحق “ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه فليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً, فإني لا أرى الموت إلا سعادة(شهادة) والحياة مع الظالمين إلا برماً”.
فالدين هو الراسم الرئيسي لقواعد التعامل مع الحق, والمميز بينه وبين الباطل فأي مس بالحق الإنساني هو مس بجوهر الإسلام, ولا حياة لمسلم والدين معرَّض للأخطار. من هنا يصبح الموت سعادة وشهادة, وتكون الحياة ضنكاً إن كان الحاكم فيها هو الظلم والظالمون..
وهكذا دنيا هي التي تحدَّث فيها الإمام الحسين(ع) قائلاً: “الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال, متصرفة بأهلها حالاً بعد حال, فالمغرور من غرته, والشقي من فتنته فلا تغرنكم الحياة الدنيا, فإنها تقطع رجاء من ركن إليها, وتخيب طمع من طمع فيها, وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم”(36).
الأثر الرابع: تحول البلاء المتولِّد من قبل الظالمين على أهل الإيمان والصبر إلى نعماء إلهية لأهل الحق ونصرة قضاياهم, وإلى سخط إلهي يقع على الظالمين المستبدين. يقول الإمام الحسين(ع): “استعدوا للبلاء, واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم, وسينجيكم من شر الأعداء, ويجعل عاقبة أمركم إلى خير, ويعذِّب أعاديكم بأنواع البلاء, ويعوضكم الله عن هذه البلية أنواع النعم والكرامة, فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم”(37).
فالإمام(ع) كان ينظر بثقة إلى انقلاب المقاييس التي ستصيب أهل الظلم بصنوف الابتلاءات وعواقب العذاب في الدنيا والآخرة بحيث تندرس معالم طريقتكم وتتحول إلى لعنات. ويرتفع لواء المظلومين خفَّاقاً في سماء الخلد والمجد في الدنيا والآخرة.. وهذا الفهم هو الذي يؤسِّس للموقف النظري والعملي في الدنيا..
الأثر الخامس: وهو تأسيس وتأكيد على منطق السنن الإلهية الحاكمة في الحياة الدنيا, والتي بحسب الموقف منها يتمايز الناس والحكومات, إذ يقول الإمام(ع):
“ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد, وعنكم تصدر, وإليكم ترجع, ولكنكم مكَّنتم الظلمة من منزلتكم, وأسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات, ويسيرون في الشهوات, سلطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم, فأسلمتم الضعفاء في أيديهم, فمن بين مستعبد مقهور وبين مستضعف على معيشته مغلوب, يتقلبون في الملك بآرائهم, ويستشعرون الخزي بأهوائهم, اقتداءً بالأشرار, وجرأة على الجبَّار, في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع, فالأرض لهم شاغرة, وأيديهم فيها مبسوطة, والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس, فمن بين جبَّار عنيد, وذي سطوة على الضعفة شديد, مطاع لا يعرف المبدئ والمعيد, فيا عجباً ومالي لا أعجب والأرض من غاشٍ غشوم ومتصدق ظلوم, وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم, فالله الحاكم فيما تنازعنا, والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان, ولا التماساً من فضول الحطام, ولكن لنرى المعالم من دينك, ونظهر الإصلاح في بلادك, ويأمن المظلومون من عبادك, ويعمل بفرائضك وسنتك وأحكامك, فإنكم لا تنصرونا وتنصفونا قوى الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم, وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير”(38).
الأثر السادس: وهو الذي بدا على موقف أصحابه؛ كنتيجة لتلك التعاليم التي لقنها إياهم ومارسها معهم, فهو(ع) رغم قوله: “اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي, ولا أصحاباً هم خير من أصحابي, وقد نزل بي ما قد ترون وأنتم في حل من بيعتي ليست في أعناقكم بيعة, ولا لي عليكم ذمة, وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً, وتفرقوا في سواده فإن القوم إنما يطلبوني, ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري”(39).
رغم ذلك فإنهم رفضوا إلا الشهادة بين يديه, إذ اعتبروا في ذلك تمام النعمة.
(1) – سورة المؤمنون, الآية 37.
(2) سورة الأنعام, الآية 32.
(3) سورة البقرة, الآية 44.
(4) سورة غافر, الآية 39.
(5) سورة الأنعام, الآية 32.
(6) سورة آل عمران, الآية 185.
(7) سورة الأنبياء, الآية 35.
(8) سورة الملك, الآية 2.
(9) المجلسي, بحار الأنوار, مؤسسة الوفاء, بيروت, ط2 المصححة, 1983م, ج6, ص 136.
(10) النحل: الآية 70.
(11) الإمام علي, نهج البلاغة, تحقيق محمد عبده, دار المعرفة, بيروت, ج4, ص 36.
(12) سورة يونس, الآية 7, 8.
(13) سورة الروم, الآية 7.
(14) النجم: الآية 29, 30.
(15) الإمام الحسين, موسوعة كلمات الإمام الحسين, معهد تحقيقات باقر العلوم, منظمة الإعلام الإسلامي, قم, ط3,
(16) م.ن. ص 747.
(17) م.ن. ص 482.
(18) م.ن. ص 491.
(19) كلمات الحسين(ع), م.س, ص 425.
(20) سورة المائدة, الآية 32.
(21) الشيخ المفيد, الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد, مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث, دار المفيد, بيروت, ج2, ص 99.
(22) كلمات الإمام الحسين(ع), م.س. ص 438.
(23) م.ن, ص 401.
(24) العسكري, مرتضى, معالم المدرستين, مؤسسة النعمان, بيروت, ط1, 1990, ج3, ص 116.
(25) المجلسي, بحار الأنوار, م.س, ج45, ص 18.
(26) كلمات الإمام الحسين, م.س, ص 328.
(27) كلمات الإمام الحسين(ع), م.س, ص 328.
(28) التميمي المغربي, النعمان بن محمد, شرح الأخبار في فضل الأئمة الأطهار, تحقيق محمد الهلالي, مؤسسة النشر الإسلامي, ج3, ص 146.
(29) كلمات الإمام الحسين(ع), م.س, ص 328.
(30) الطبري, ابن جرير, تاريخ الأمم والملوك, تحقيق نخبة من العلماء, مؤسسة الأعلمي, بيروت, ج4, ص 292.
(31) ابن عساكر, تاريخ مدينة دمشق, تحقيق علي شيري, دار الفكر, بيروت, ج14, ص 210.
(32) كلمات الإمام الحسين(ع), م.س. ص 332.
(33) ابن عساكر, م.س, ج14, ص 210.
(34) سورة القلم, الآية 55.
(35) كلمات الإمام الحسين(ع), م.س, ص 356.
(36) كلمات الإمام الحسين(ع), م.س, ص 416.
(37) م.س, ص 491.
(38) من كلمات الإمام الحسين(ع), آثار التعلق بالدنيا وكراهية الموت, ص 276 .
(39) الشيخ الصدوق, الأمالي, قسم الدراسات الإسلامية, مؤسسة البعثة, قم, ط1, 1417 هـ, ص 220.